فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك، قالوا: فانقطع أبو عمرو بن العلاء.
وعندي أنه كأن لابي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: أنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين، وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد، وبطل قياسك، وإنما ذكرت هذا الشعر لأيضاح هذا الفرق، فأما قولك: لو لم يفعل لصار كاذبًا ومكذبًا نفسه، فجوابه: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتًا جزمًا من غير شرط، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى، فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية، والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}:

.قال السمرقندي:

{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}.
في البعث ويقال معناه {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب، وقيل: تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للإشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشيء من ذكر اليوم المهيب الهائل، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف؛ وهذا بخلاف ما في آخرة السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الإنعام، وقال الكرخي: الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالًا لفظيًا فقط وما في الآخرة متصل اتصالًا معنويًا ولفظيًا لتقدم لفظ الوعد، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ، قال السفاقسي: وهو الظاهر و{الميعاد} مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعولية يخلف وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب، وغدًا جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب، اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال، وغدًا جمع الأبشار لشهود الأحوال، ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أنك أَنْتَ الْوَهَّابُ}
لَمَّا كَانَ الْمُتَشَابِهُ مَزَلَّةَ الْأَقْدَامِ وَمَدْرَجَةَ الزَّائِغِينَ إِلَى الْفِتْنَةِ وَصَلَ الرَّاسِخُونَ الْإِقْرَارَ بالإيمان بِهِ بِالدُّعَاءِ بِالْحِفْظِ مِنَ الزَّيْغِ بَعْدَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ يَعْرِفُونَ ضَعْفَ الْبَشَرِ وَكَوْنَهُمْ عُرْضَةً لِلتَّقَلُّبِ وَالنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَعِلْمَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَخَافُونَ أَنْ يُسْتَزَلُّوا فَيَقَعُوا فِي الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَرِينُ الْخَطَرِ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِحْكَامِ الْعِلْمِ فِي مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَإِحْكَامِ الْعَمَلِ بِحُسْنِ الِاهْتِدَاءِ إِلَّا اللُّجْأُ إِلَى اللهِ تعالى بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ الزَّيْغِ الْعَارِضِ، وَيَهَبَهُ الثَّبَاتَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ، وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَالرَّحْمَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. أَقُولُ: وَلَا تَلْتَفِتْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى مُجَادَلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إِسْنَادِ الْإِزَاغَةِ إِلَى اللهِ تعالى، فَإِنَّهُ تعالى يُسْنَدُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَقَامِ تَقْرِيرِ الإيمان بِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ فِي زَيْغِهِ. فَقَدْ قال تعالى فِي سُورَةِ الصَّفِّ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [61: 5] وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قوله تعالى: {مِنْ لَدُنْكَ} مَعْنَاهُ: مِنْ عِنْدِكَ فَإِنَّ (لَدُنْ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرَادِفَةً لَهَا- بَلْ هِيَ أَخَصُّ وَأَقْرَبُ مَكَانًا- وَلَا لِلَدَى.
فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِخَمْسَةِ أُمُورٍ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ لَدُنْ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّوْفِيقُ الَّذِي لَا يَنَالُهُ الْعَبْدُ بِكَسْبِهِ. وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِسَعْيِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِالْهِبَةِ وَوَصْفُهُ تعالى بِالْوَهَّابِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ عَطَاءٌ بِلَا مُقَابِلٍ.
{رَبَّنَا إنك جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} جَمْعُ النَّاسِ وَحَشْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُمْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْجَزَاءِ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنُهُ {لَا رَيْبَ فِيهِ} مَعْنَاهُ: أَنَّنَا مُوقِنُونَ بِهِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّكَ أَخْبَرْتَ بِهِ وَوَعَدْتَ وَأَوْعَدْتَ بِالْجَزَاءِ فِيهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [2: 2] أَيْ أنه لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ عَنِ الْكِتَابِ فِي نَفْسِهِ، وَالْكَلَامَ هُنَا حِكَايَةٌ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ وَلِذَلِكَ عَلَّلَ نَفْيَ الرَّيْبِ بِنَفْيِ إِخْلَافِ الْمِيعَادِ، وَجِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِلْإِشْعَارِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْجُمْلَةَ كَالدُّعَاءِ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ تعالى لِتَقْرِيرِ قَوْلِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مُنَاسَبَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِلْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الأخبار عَنِ الْآخِرَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَضْمُونِهِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بأنه لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ يَوْمَ الْجَمْعِ؛ لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْفُسَهُمُ الْخَوْفَ مِنْ تَسَرُّبِ الزَّيْغِ الَّذِي يُبْسِلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَهَذَا الْخَوْفُ هُوَ مَبْعَثُ الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الزَّيْغِ. أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{رَبَّنَا أنك جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
وقولهم: {رَبَّنَا} نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له.
والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد: إن شاء الله لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد.
حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْئ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23- 24].
قُلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، أنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسأن لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسأن لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسأن لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسأن لا يملك الزمن، ولا يملك المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله. لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْئ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23- 24].
إن كلمة {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسأن لا يملك عنصرًا واحدًا من عناصر هذا الفعل. وعندما يقول الحق: {رَبَّنَا أنك جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي.
وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم: عملنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا. وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئًا}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{رَبَّنَا إنك جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}.
أخرج ابن النجار في تاريخه عن جعفر بن محمد الخلدي قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه {ربنا أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي أنك على كل شيء قدير». اهـ.

.تفسير الآية رقم (10):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تحقق أن يوم الجمع كائن لا محالة تحقق أن من نتائجه تحقيقًا لعزته سبحانه وتعالى وانتقامه من الكفرة قوله تعالى: {إن الذين كفروا} أي الذين يظنون لسترهم ما دلت عليه مرأى عقولهم أنهم يمتنعون من أمر الله لأنهم يفعلون في عصيانه وعداوة أوليائه فعل من يريد المغالبه {لن تغني عنهم أموالهم} أي وإن كثرت، وقدمها لأن بها قوام ما بعدها وتمام لذاته، وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع فيكون أصرح في المرام {ولا أولادهم} وإن جلت وعظمت {من الله} أي الملك الأعظم {شيئًا} أي من إغناء مبتدئًا من جهة الله، وإذا كانت تلك الجهة عارية عما يغني كان كل ما يأتيهم من قبله سبحانه وتعالى من بأس واقعًا بهم لا مانع له، فمهما أراد بهم كان من خذلان في الدنيا وبعث بعد الموت وحشر بعد البعث وعذاب في الآخرة، فأولئك المعرضون منه لكل بلاء {وأولئك هم وقود النار} وفي ذلك أعظم تنبيه على أن الزائغين الذين خالفوا الراسخين فوقفت بهم نعمه المقتضيه لتصديقه عن تصديقه ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئًا، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا ومحشورون في الآخرة إلى جهنم.
ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد كان الأليق بخطابها أن يكون الدعاء فيه إلى الزهد أتم من الدعاء في غيرها، والإشارة فيه إلى ذلك أكثر من الإشارة في غيره، فكانت هذه الآية قاطعة للقلوب النيرة بما أشارت إليه من فتنة الأموال والأولاد الموجبة للهلاك.
قال الحرالي: ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه وإظهار سره موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما الصلاة والسلام كان مما أظهره الله سبحانه وتعالى لعامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاء لها على كل أمة، واختصاصًا لها بما علا اختصاص نبيها صلى الله عليه وسلم حتى قال قائلهم: أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني لقوم لم يظهروا على سر القدر، وقال: والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لاحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر، فأفهم الله سبحانه وتعالى علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها، كما قيل في أثارة من العلم: من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم فختم العامل عمله بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له، وأن المجرى على يديه أمر مقدر قدره الله تعالى عليه وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم، ولا حجة للعبد على ربه ولا حجة للصنعة على صانعها ولله سبحانه وتعالى الحجة البالغة؛ وكذلك العالم متى لم ينطو سره على أنه لا يعلم وإنما العلم عند الله سبحانه وتعالى لم يثبت له علم، فذلك ختم العمل بالعمل وختم العلم بالجهل، فكما أطلعه سبحانه وتعالى في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه أظهره في فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته الذي هو شاهده في وحي ربه، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أفعال خلقه، فكان منزل سورة البقرة قوام الأفعال ومنزل سورة آل عمران قوام التنزيل والإنزال فكان علن القيومية قوام التنزيل للكتاب الجامع الأول، والتنزيل قوام إنزال الكتب، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات، والإحكام والتشابه إقامة الهدى والفتنة، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة، والأحوال وما دونها من الأفعال على وجه جمع يكون قوامًا لما تفصل من مجمله وتكثر من وحدته وتفرق من اجتماعه، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان لما ذكر من شرف سن الإيمان على سن الناس في تنامي أسنان القلوب، وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها في قوله سبحانه وتعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} [البقرة: 164] إلى قوله: {لقوم يعقلون} [البقرة: 164] فكان خطاب سورة آل عمران إقبإلا على أولي الألباب الذين لهم لب العقل، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قوله: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} [آل عمران: 7] وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله سبحانه وتعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190] فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب وباللب يكون التذكر، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب، وبالجملة فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال وإقامة معالم الإسلام بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله، وبما افتتحت به من اسم الله الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له لإحاطته واختصاصها بوجه ما، فكان فيها علن التوحيد وكماله وقوام تنزيل الأمر وتطورالخلق في جميع متنزلها ومثانيها، وظهر فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269] فكان من جملة بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم حتى ألهتهم عن ذكر الله، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه {الذين آمنوا} في قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [المنافقون: 9] انتهى. اهـ.